كان كل شيء عاديًا، لا مبهج ولا مؤلم. أيامه تمشي ببطءٍ مألوف، لا يتعثر بها ولا تسحبه للوراء. كان يضحك حين يُضحك، ويصمت حين يُترك، وينام كل ليلة بنفس الجسد، بنفس القلب، دون جروح جديدة. لم يكن في حاجة إلى معجزة، ولا ينتظر شيئًا كبيرًا. فقط كان يريد أن تستمر الحياة كما يعرفها… بسيطة، واضحة،…

ثمّة ما يُربّت على قلق الإنسان في الأشياء التي تتكرّر. ذلك الصوت الذي يتسلّل إلى الصباح دون أن يُدهشه، الكوب الذي تستقرّ حرارته في اليد نفسها كل يوم، الطريق الذي لا يسأل قدمًا عن رغبتها، والوجوه التي لا تلفت الانتباه لكنها تُشكّل طمأنينة غير مرئيّة… كل هذا الذي يحدث في تكرارٍ رتيب، بتفاصيله الباهتة ومواعيده…

بطلي الأول، والوحيد، لم أره يبكي يومًا ما، لا في الأحزان الكبيرة، ولا في المواقف التي تسقط فيها الجبال. كان دائمًا واقفًا كما اعتدت أن أراه، واقفًا لأجلنا، لا يهتز، لا يُظهر تعبه، ولا يترك لليأس منفذًا يمرّ منه إلينا. حتى حين ضاقت الحياة، كان يتّسع لنا، كأنه لم يُخلق إلا لنحتمي فيه. كبرت، وعلى…

لم نُخلق لنفهم كل ما يُؤلمنا لحظة حدوثه، بعض الأوجاع تُفتَح كجروح، ثم تُخاط من الداخل دون أن نعرف متى، ولا كيف حدث ذلك، كل الذين غابوا دون أن نفهم، كل الأبواب التي أُغلقت رغم الدعاء، كل الأحلام التي تهاوت رغم المحاولة… لم تكن خسارات كما ظننا، كانت نجاة نُسِجت دون علمنا، رحمة لا تُشبه…

لم أفهم يومًا لماذا يشعرني البيت بالنجاة، رغم أنه لا يقدّم لي جديدًا. نفس الجدران، نفس الممرات، نفس الضوء الذي يتسلل من نفس الزاوية كل صباح. ومع ذلك، في كل مرة أعود، أشعر أنني كنت على وشك أن أفقد شيئًا لولا أن وصلت. هو الشيء الذي يحدث كل يوم دون احتفال، دون إشادة، دون أن…

الذين لم يسيروا في دربك، يتحدّثون عنك بثقة الناجي، يتباهون بنصائحهم كأنها دروع لا تُخترق، يُخبرونك كيف كان يمكن أن تنجو، كيف كان عليك أن تتصرّف، كأن الطريق الذي أنهكك لم يكن شائكًا، بل كان بإمكانك تجاوزه بقليل من الحكمة وكثير من “لو”، يتكلمون من أماكن آمنة لا تعرف الطين ولا الحفرة ولا ركضة التراجع…

في مكانٍ لا يدركه ضجيج، ولا تصل إليه المدن حتى بأخبارها، جلست على الأرض التي لا تحدّها الأسوار، أسند ظهري على مركاةٍ تشبه هيئة الهدوء، وأترك جسدي يهبط قليلًا كأنني أخلعه عنّي. فوقي فضاءٌ لا يزاحمه نور، تتناثر فيه النجوم بلا ترتيب، بلا موعد، بلا نية لأن تُبهر أحدًا. الهواء يمرّ بين سعف النخل بخفّةٍ،…

لم يكن الأمر أنني لم أحاول، لقد فعلت، بكل الطرق التي كنت أعرفها، وبكل الطرق التي لم أعرفها وجربتها رغم ذلك، مشيت وأنا أظن أنني أُشبه أولئك الذين يصلون، ظننت أنني أستطيع، أنني أقوى، أنني أملك ما يكفي، لكن شيئًا ما في الطريق كان ينسلّ منّي، شيئًا لا يُرى، لا يُوصف، لكنه يسحبك من الداخل،…

تخيّلتكِ في حياةٍ أخرى، لا تعرفينني فيها، ولا تعرفين أحدًا، سوى نفسك. لا أمّ تقلقين لأجلها، ولا أخوات تحملين همّهن، ولا زوج تتأملينه، ولا أولاد تُفكّرين في طعامهم وملابسهم ومستقبلهم. امرأة فقط، بلا مسؤوليات تتكاثر كلما قلتِ “أنا بخير”، تنام حين تتعب، وتبكي حين تحزن، وتأكل آخر قطعة حلوى لأنها تشتهيها، لا لأنها نسيتها. امرأة…

لم أكن يومًا ماهرة في رسم مستقبلٍ لنفسي، كل المحاولات التي طُلب فيها مني أن أتخيّل بعد عشر سنوات، كانت تنتهي بورقةٍ فارغة. لا أرى نفسي امرأةً في الأربعين، ولا أمًّا، ولا حتى مسنّةً تحكي حكاياتها لأحفادها. أقف في منتصف الطريق، لا لأنني وصلت، بل لأنني لم أتصوّر يومًا أنني سأسير كل هذه المسافة. منذ…