وأخيرًا لم تُجِب على رسالتي الأخيرة، ولم أُبادر بعدها؛ لا لأنني اكتفيت، بل لأنني خِفت أن أتجاوز نفسي مرةً أخرى.
كانت الرسالة الأخيرة تُشبهني: ممتلئة بما لا يُقال دفعةً واحدة، وهادئة بما يكفي لتُفهَم دون شرح.
كلّ شيءٍ تراجع إلى الخلف بهدوء، حتى رغبتي في التفسير. كان هناك شيءٌ يُشبه الرجاء، لكنه انكمش بداخلي وتلاشى.
غادرتَ، وأخذتَ معك شعورًا لم أعرف اسمه، لكنني شعرتُ بغيابه يتمدّد بصمتٍ ثقيل، كفراغٍ جديد لا يُعلِن نفسه، لكنه يُغيّر كلّ شيء.
وغادرتُ، لا لأنني أردت، بل لأن البقاء كان يُشبه الوقوف في مكانٍ لا يُنتظَر فيه أحد.
حين أعود بذاكرتي قليلًا، أجد أنّ التفاصيل كانت تختزل الحقيقة دون أن تبوح بها؛ وكنتُ أنا، ببساطة، أغبى من أن أواجهها.
اخترتُ أن أصدّق أنني أحتاج أن أبقى، أن أتمسّك بما ظننته لنا، أن أُحارب لأجل شعورٍ لم يُمنح لي تمامًا، رغم أنه كان كافيًا لأن أستمر.
كلّ ما قلته لي أصبح خفيفًا في ذاكرتي، كأنك لم تقله، أو كأن من قاله كان شخصًا آخر.
صِرتُ أتردّد بين أن أقبض على بقايا كلامك، أو أتركها تنزلق من يدي كما فعلتَ بي.
أدركتُ أنك لم تأتِ إليّ بقلبٍ كامل، وأنني مررتُ بك في وقتٍ لم تهدأ فيه بعد. كنتَ مأهولًا بشيءٍ لا أعرفه، ووجودي لم يكن قويًّا بما يكفي ليُزيح أثره.
كنتَ تمشي نحوي، لكن ظلك ظلّ مائلًا نحو ماضٍ لم أكن يومًا فيه.
كنتَ تحاول، مثل من يريد إنقاذ نفسه من نفسه.
كان وجودك ناقصًا، لكنه لم يكن قاسيًا. كان باهتًا جدًّا، كمَن يُحاول أن يكون هنا، وهو لا يزال يعتذر لذكرى في مكانٍ آخر.
لا أعرف كيف اختفى الشعور، ولا متى توقّفت تمامًا عن تفقّد الهاتف علّك تعود، ولا كيف مرّت كل تلك الأيام دون أن أعود للرسائلك وأُعيد قراءتها كأنها لُغز.
أنا فقط أعلم أنّ شيئًا داخلي قد تغيّر.
هدأت المعركة، لا لأنني فزت، بل لأنني تعبت من رفع السلاح.
ما عدتُ أنتظرك، ولا أُحاول إقناع نفسي أنك كنتَ حقيقيًّا بما فيه الكفاية لتبقى لكن ظروفك كانت أقوى منك، ولا عُدتُ أحاول أن أعرف مالذي خذلني أكثر: صمتك، أم حضوري الكامل بلا جدوى.
ربما ما لم أُدركه حينها، أن الاعتياد على الغياب وجهٌ آخر للخذلان؛ أن يصبح الغياب مألوفًا في داخلك، حتى يبدو كأنه لم يكن فيك امتلاءٌ من قبل.
أن تنسى امتداد المحادثات، واتساع القلب وطمأنينته وهو يفتح أبوابه دون أن يخاف من التيه.
كنتُ أقرأ الإشارات الصغيرة كأنها وعود، وأبني من التفاصيل العادية شيئًا يُشبه الأمان.
كنتُ أرى خلف صمتك شيئًا هشًّا، وأظنّ أن احتوائي ورحابة صدري ستكفيه.
لم أكن أبحث عن الكمال، ولا كنتُ أطلب وضوحًا كاملًا، كنت فقط أُريد أن أكون بجانبك كما أنت، مهما كانت فوضاك.
ظننتُ أن الحب يُثبت نفسه بالبقاء، وأن قلبي وحده يكفي ليجعل كلّ شيءٍ ممكنًا.
تبيّن لي أخيرًا أن الشعور وحده لا يُبقي أحدًا؛ فمَن لا يصل إليك بقلبه، لن يصل… مهما اقترب.
أدركتُ بهدوءٍ يُشبه نضجًا تراكم مع الوقت، وأنا أنظر إلى التذكير الذي ظهر على هاتفي، في تاريخٍ كنتُ قد حفظته بعناية، ظنًّا مني أنّ كلّ ما يخصّك يستحقّ الاحتفال؛ أنني كنتُ على وشك أن أبني كل شيء على قلبٍ لم يكن يومًا لي، أن أُعلّق روحي بشخصٍ لم يُفلِت بعد من عالقٍ فيه.
كنتَ واقفًا في مكانك، تدور في نفس الدائرة، مغمورًا بذكرى قد تركتك، ولم تتركها. وكنتُ أنا – بكامل سذاجتي – على وشك أن أصبح مثلك، لكنني توقّفت.
في تلك اللحظة، لم يبقَ في قلبي ما يدفعني للحزن أو الندم.
سكنت روحي فجأة، كمَن خرج من العاصفة دون أن يُدرك كيف نجا، لكنه يعلم تمامًا أنه لن يعود كما كان.
تضاءلت فكرتك في داخلي حتى ما عادت تستدعي شعورًا، وما بقي منك لا يُشبه الفقد… بل يُشبه النجاة.
نجوتُ منك دون أن أكرهك، كلّ ما في الأمر أنّني لم أعد أراك جديرًا بما شعرتُ به.
واتّضح لي أن بعض الأشياء لا تنتهي لأنها لم تبدأ أصلًا، وأن ما بدا كخسارة… لم يكن أكثر من محاولةٍ لم تكتمل.
