في مكانٍ لا يدركه ضجيج، ولا تصل إليه المدن حتى بأخبارها، جلست على الأرض التي لا تحدّها الأسوار، أسند ظهري على مركاةٍ تشبه هيئة الهدوء، وأترك جسدي يهبط قليلًا كأنني أخلعه عنّي. فوقي فضاءٌ لا يزاحمه نور، تتناثر فيه النجوم بلا ترتيب، بلا موعد، بلا نية لأن تُبهر أحدًا. الهواء يمرّ بين سعف النخل بخفّةٍ، كأنه يعتذر عن إزعاج هذا الصمت، والحشرات تتابع طريقها كأن لا أحد يراقب.
كأن الأشياء كلّها قررت أن تكون ساكنة هذه الليلة، فلا ضجيج، ولا استعجال، ولا ضرورة لأن نكون أسرع أو أوضح أو أكثر منّا.
وأفكّر، متى أصبحت الحياة سباقًا؟ من الذي أوهمنا أن التأخّر عيب، وأن البقاء قليلًا حيث نحن.. خسارة؟ من قرّر أن النجاح له عمر، وأن الفرح لا يُقبل بعد وقتٍ معيّن، وأن الحياة، إن تأخّرت عنها.. لن تنتظرك؟
في هذا المكان، لا أحد يعدّ الساعات. الهواء لا يعرف كم الوقت، والنخل لا يتعجّل الخُضرة، والأرض لا تشتكي تأخّر المطر.
كل شيء يمضي… فقط لأنه حان أوانه. بلا استعجال، بلا خطط، بلا جداول مؤجلة.
الطبيعة كلها تمشي… لا تهرول. تتحوّل، لا تتسابق. تعيش الوقت، لا تلاحقه.
إلا الإنسان… يتنازل عن فطرته ليركض، ويخجل من الوقوف، حتى لو كانت ساقاه لا تقوى على حمله.
وكلما طال جلوسي هنا، في هذا السكون الذي لا يُطالبني بشيء، شعرت أنني أستعيد شيئًا من فطرتي القديمة؛ تلك التي فُطرنا عليها قبل أن نُقنع أنفسنا أن الحياة لا تُمنح إلا لمن يركض. أدركت أن التأخّر ليس خسارة، بل شكل آخر للفهم. وأن الوقوف لا يعني التراجع، بل أحيانًا يكون الطريقة الوحيدة لرؤية الطريق كما هو، لا كما قيل لنا أن نراه.
أفكّر كيف أننا، كلما ابتعدنا عن ضجيج الناس وتوقّعاتهم، عدنا نشبه أنفسنا أكثر. كيف أن الأرض حين تُصغي لها بهدوء، تُعلّمنا أن النموّ لا يُقاس بالسرعة، ولا بالحجم، بل بالثبات. أن ما يتأخّر، لا يفوّت بالضرورة. وما يتباطأ، لا يُعدّ فاشلًا.
وأنك حين تعيش على وتيرتك الخاصة، بعيدًا عن ساعة العالم، قد تصل متأخرًا… لكنك تصل كاملًا.
