لم نُخلق لنفهم كل ما يُؤلمنا لحظة حدوثه، بعض الأوجاع تُفتَح كجروح، ثم تُخاط من الداخل دون أن نعرف متى، ولا كيف حدث ذلك، كل الذين غابوا دون أن نفهم، كل الأبواب التي أُغلقت رغم الدعاء، كل الأحلام التي تهاوت رغم المحاولة… لم تكن خسارات كما ظننا، كانت نجاة نُسِجت دون علمنا، رحمة لا تُشبه ما تمنّيناه، لكنها الوحيدة التي يُعوّل عليها بعد كل انكسار.
أحيانًا لا يُبعد الله عنك شيئًا إلا ليمنعك من أن تُسلّم روحك لما كان سيؤذيك، يضع بينك وبين ما تُحبّ مسافة، يمرّرك من فُقدانٍ لا تفسير له، من غيابٍ بلا نهاية واضحة، من رحيلٍ لا يملك شكل النهاية ولا حتى طقوسها، ثم يترُكك هكذا، أمام نفسك، تتساءل: لِمَ أنا؟ ولِمَ الآن؟ وتظن أنك تُعاقَب، أو أنك أفنيت قلبك على شيءٍ لم يكن يستحق.
لكن الحقيقة أن الله لا يُبعد عنك أحدًا إلا لأجلك، لا لأنك لا تستحقه، بل لأنك تستحق أكثر، لا لأنك ضعيف، بل لأنك في مرحلة لا تحتمل مزيدًا من الخذلان، لا لأنك أخطأت، بل لأنك كنت قريبًا من هاوية لم تراها، من ألمٍ لو اكتمل، لكسرك إلى نصفين لا يلتقيان أبدًا.
والأصعب من البُعد، أن تظن أنك خُذلت، أن تُفكر بمنطق البشر، وتقيس الرحمة بما تراه لا بما يُحاك لأجلك في الغيب، أن تحزن على ما لم يُكتَب، بينما الغيب كان يُنقذك دون أن يستشيرك، دون أن يُبرر لك، ودون أن ينتظر أن تفهم، لأن الرحمة لا تحتاج موافقتك، فقط تمرّ بك بهيئة حزنٍ، وتترك لك وقتك حتى تُبصر أنك نجوت، ولو بعد حين.
نعم، هناك لحظات لم نفهمها، أوقاتٌ ظننا فيها أننا فقدنا كل شيء، أشخاصٌ بكينا غيابهم طويلًا، أبوابٌ رجونا الله أن لا تُغلق، أحلامٌ ضحّينا لأجلها ثم اختفت، لكنك إن نظرت اليوم إلى ما كنت تتمسّك به بكل قوتك، تُدرك أنه لم يكن لك، وأنك لو حصلت عليه، لكان أكثر ما أوجعك.
فلا تحزن على البُعد، ولا تخجل من نجاتك، حتى وإن أتتك في هيئة خسارة.
