بَطلي الوحيد.

بطلي الأول، والوحيد، لم أره يبكي يومًا ما، لا في الأحزان الكبيرة، ولا في المواقف التي تسقط فيها الجبال. كان دائمًا واقفًا كما اعتدت أن أراه، واقفًا لأجلنا، لا يهتز، لا يُظهر تعبه، ولا يترك لليأس منفذًا يمرّ منه إلينا. حتى حين ضاقت الحياة، كان يتّسع لنا، كأنه لم يُخلق إلا لنحتمي فيه.

كبرت، وعلى مرّ السنوات كنت أراقبه من بعيد، أبحث فيه عن تلك الصورة التي رسمتها صغيرة. الصورة التي جعلتني أظن أن الآباء لا يتعبون، وأنهم لا يشيخون، وأنهم يملكون مفاتيح العالم ويعرفون كل الطرق، وكان يعرف فعلًا… يعرف الاتجاهات، الأجوبة، وكيف يطمئننا دون أن يقول الكثير، وجود حذائه عند باب البيت كان كافيًا لأشعر أن لا شيء سيؤذيني اليوم.

حين كنّا نعبر الطريق أو ننزل من أماكن عالية، كان يُمسك يدي، لا بقبضة خشنة، بل بتشابك أصابعٍ علمتني أن الأمان ليس في اليد، بل في طريقة الإمساك. بقيت هذه الحركة فيّ يا أبي، أفعلها حتى اليوم حين أُحب.. لاشعوريًا، كأنني أكرر طريقتك في الحب.

لكن الزمن لا يطرق الأبواب… أحيانًا يدخل على هيئة ارتجافة يدٍ تحاول إغلاق غطاء إبرة الإنسولين، لم يكن مشهدًا دراميًا ولا لحظة انهيار، بل مجرد ارتجافة صغيرة، عابرة، لكنها لم تعبرني… وقفتُ أتأمله، لا أقول شيئًا. فقط أراه، وأدرك للمرة الأولى أن البطل الذي لم تهزمه الحياة، قد مسّه الزمن بهدوء، دون أن يُخبرنا.

وحدها الطفلة داخلي، وقفت على عتبة هذا المشهد، تتشبّث بصورةٍ لا تريد لها أن تهتز، تبكيها دون صوت، وتخبّئها جيدًا… لأننا حين نكبر، لا نفقد آباءنا دفعة واحدة، بل نفقدهم بالتدريج، في لحظاتٍ لا يراها أحد، في مشاهد لا تُروى، ربما تغيّرت ملامحه، وهدأت خطاه، وارتجفت يداه… ربما أخذ العمر من صلابته التي عهدناها وسرق منه بعض الحضور الذي كنا نطمئن إليه دون وعي، لكن شيئًا فيه يظل ثابتًا فينا، لا يتحرّك، لا يتبدّل… شيئًا يُشبه الأمان الأول، والكتف الأول، واليد التي أمسكت بنا قبل أن نقف وحدنا.

كأن الأبوة لا تشيخ في عيون من أحبّ بصدق، وكأن بطلي الأوّل و الوحيد، الذي منحني القدرة على مواجهة الحياة، لا يُمسّه النسيان، حتى حين يمسّه الزمن.

أحبك كثير♥️

أضف تعليق