طمأنينة التكرار

ثمّة ما يُربّت على قلق الإنسان في الأشياء التي تتكرّر.

ذلك الصوت الذي يتسلّل إلى الصباح دون أن يُدهشه، الكوب الذي تستقرّ حرارته في اليد نفسها كل يوم، الطريق الذي لا يسأل قدمًا عن رغبتها، والوجوه التي لا تلفت الانتباه لكنها تُشكّل طمأنينة غير مرئيّة… كل هذا الذي يحدث في تكرارٍ رتيب، بتفاصيله الباهتة ومواعيده الدقيقة، هو النعمة التي لا يُلتفت إليها إلا حين تختلّ.

يظنّ الإنسان أن التكرار عبء، أن الروتين اختناق، لكنه ينسى أن الاستقرار وجه آخر للطمأنينة، وأن الملل ليس سوى غطاء وديع لأمانٍ لم تُهدّده الحياة بعد. ينسى أن ما يبدو مملًا، ما لا يحرّك الدهشة في قلبه، هو ما يُبقيه ثابتًا حين يهتزّ كل شيء، وحين تُسلب إحدى هذه التفاصيل الصغيرة، يدرك متأخرًا أنه لم يكن يملك رفاهية تسميتها عادية.

يقضي عمره يركض نحو ما يظن أنه جديد، يفتّش عن الدهشة، يتلهّف للانعطافات المفاجئة، يتمنّى لو تُكسر العادة قليلاً… حتى إذا انكسر شيء فعلاً، وجد نفسه عائدًا إلى ذات التفاصيل التي تذمّر منها طويلًا. إلى المكان الذي لا يُفاجئه، إلى الاسم الذي يعرفه، إلى الرائحة التي لا تُغيّر جلدها… إلى الروتين، الذي لم يكن يومًا خصمًا، بل كان المأوى.

تكفي غفلة واحدة، أو غيابٌ بسيط، حتى تتكشّف الحقيقة: أن ما اعتُبر “عاديًا” لم يكن عاديًا، بل كان الجزء الأكثر ثباتًا في عالمٍ لا يتوقف عن التبدّل.

الحياة لا تُعلِن نواياها، ولا تلوّح حين تُفكّك ترتيب الإنسان، لكنها تتركه دائمًا في حضرة سؤال خافت:

كم من الأشياء لم يُحسن تقديرها لأنها فقط… حدثت كل يوم؟

أضف تعليق